المتتبع لمواقف رئيس الحكومة سلام فياض المعلنة يلاحظ أن هناك فيّاضيّة جديدة بدأت بالظهور خلال العام الماضي، أبرز معالمها اختلاف متزايد ما بين برنامج الرئيس وبين ما يمكن أن يطلق عليه برنامج رئيس حكومته، فبعد حالة من الانسجام بين الرجلين تخللتها بعض الخلافات؛ تزايدت وظهرت إلى العلن بعد توقيع اتفاق القاهرة في أيار 2011، وبعد إعلان الدوحة الذي اتفق فيه على تجاوز فياض عند تشكيل الحكومة الوفاقية والاتفاق على أن يترأسها الرئيس "أبو مازن".
لكي نفهم ما جرى علينا أن نبدأ من عند وصول خطة بناء المؤسسات وإنهاء الاحتلال التي طرحتها حكومة فياض إلى سقفها الزمني دون أن تحقق أهدافها. الرئيس استنتج أن هذا يفترض التوجه إلى الأمم المتحدة للحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين، بينما كان اجتهاد رئيس حكومته أن هذا يمثل معركة مجانية، وبدلًا من وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته بعد أشادته بجهوزية مؤسسات السلطة وقدرتها على التحول إلى دولة.
الفيّاضيّة الجديدة بدلًا من أن تأخذ العبرة من فشل خطة إقامة الدولة تحت الاحتلال عن طريق إثبات الجدارة تجعل خطة بناء المؤسسات مفتوحة زمنيًّا إلى الأبد، شأنها شأن المرحلة الانتقاليّة المنصوص عليها في اتفاق أوسلو، والتي كان من المفترض أن تنتهي في أيار 1999، وها قد مر أكثر من ثلاثة عشر عامًا على تجاوز هذا التاريخ دون أن يعرف أحد متى يمكن أن تنتهي، أو متى سيتم وضع حد لهذه المرحلة؟
الخلاف على التوجه إلى الأمم المتحدة مجرد رأس "جبل الخلافات" حول العديد من المسائل، ومن أبرزها:
• تركيز فياض على بقاء السلطة وتعزيز وجودها حسب المتاح، مع السعي للامتداد في مناطق (ج)، ومقاطعة الاستيطان، والمقاومة الشعبية، دون التقدم العملي الملموس في هذا الاتجاه. وفي هذا السياق، رفض كل المواقف والشعارات التي تدعو أو تهدد بحل السلطة أو تغيير شكلها أو وظائفها والتزاماتها، أو تتحدث عن أنها سلطة بلا سلطة، لأن مثل هذه التصريحات، خصوصًا عندما تطلق من القيادة الفلسطينيّة، تقوض أركان السلطة وتفقدها المصداقيّة وثقة المجتمع الدولي والمانحين، بمن فيهم البنوك والقطاع الخاص؛ وتأكيدًا لهذا الاتجاه تم الاتفاق مؤخرًا بين السلطة وإسرائيل على تحسين جباية العائدات الجمركيّة، وهي خطوة يمكن توظيفها إسرائيليًا ضمن ما يروج له بشأن "السلام الاقتصادي" كوسيلة لإطالة عمر الاحتلال.
• استعداد فياض، كما جاء في مقابلته مع "الانديبندنت" البريطانية لاستئناف المفاوضات المباشرة دون شروط، مع مواصلة المطالبة بالتزام إسرائيل بإقامة دولة على حدود 1967، بحجة أن استئناف المفاوضات يضمن إقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة وأوروبا، وبقيّة أطراف المجتمع الدولي، ويمكن من "إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، ووضع إسرائيل أمام مسؤولياتها تجاه الفلسطينيين بدعم دولي أفضل.
• ربط فياض بين التوجه إلى الأمم المتحدة والموافقة الأميركيّة والأوروبيّة، أو الأوروبيّة على الأقل، لأن الفلسطينيين ليسوا بحاجة إلى إعلان آخر لقيام دولة فلسطينيّة يؤدي إلى الاصطدام مع الإدارة الأميركيّة، ليعرفوا ما هو معروف لديهم وللعالم كله، وهو أن هناك 130 أو 140 أو 150 دولة تؤيد حقوقهم، بما فيها إقامة دولة فلسطينيّة، لأن هناك 132 دولة اعترفت بدولة فلسطين.
• طرح فياض خطة للمصالحةـ ترتكز على الاتفاق على الأمن لوحده، ورفض التوجه للمصالحة بالطريقة المعتمدة طوال السنوات الماضية، من خلال ربط أي خطوة بالإجماع أو التوافق الوطني، التي أدت إلى دفع ثمن المصالحة والتدويل من دون تحقيقهما. ودعا إلى إجراء انتخابات تشريعية في الضفة فقط إذا لم توافق "حماس" على إجرائها في ظل تحول قطاع غزة المتزايد إلى كيان مستقل، وبصورة يكون فيها مرشحون من قطاع غزة دون مشاركة بالتصويت، بما يضمن تمثيل القطاع في المجلس التشريعي القادم، الأمر الذي يمثل تكريسًا للانقسام وانتهاكًا لحق وطني وقانوني لشعبنا في القطاع عبر المشاركة في اختيار من يمثلهم.
• في المقابلة التي أجراها مع صحيفة الـ"واشنطن بوست" الأميركيّة التي نشرت في حزيران الماضي، دعا فياض إلى طريق ثالث بعد أن راهن على تحالفه مع الرئيس و"فتح"، بدليل أن كتلة الطريق الثالث التي خاضت الانتخابات التشريعية السابقة غابت عن الوجود بعد حصولها على مقعدين فقط، وبُرهانه على ذلك أن "حماس" لا تريد الانتخابات و"فتح" كذلك، ولمح إلى إمكانيّة تشكيل حزب أو الترشح للانتخابات القادمة إذا وجد أن فرصه فيها معقولة.
• رفض فياض ترؤس الوفد الفلسطيني الذي أعلن عنه الرئيس بعظمة لسانه لتسليم رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو رسالة من الرئيس، لأنه وجدها من دون جدوى وأنه ليس "ساعي بريد".
الفياضيّة تقوم على "الواقعية" بحجة الحفاظ على أهم ما تحقق للفلسطينيين، وخصوصًا من اعتراف أميركي وأوروبي بهم، خصوصًا في ظل عدم طرح بدائل حقيقيّة عن ذلك، لأن الحديث عن البدائل منذ عدة أعوام حتى الآن لم يترتب عليه اعتماد أي بديل، وإنما استمرار الحديث عن البدائل التي أدت إلى دفع ثمنها دون اعتمادها، وإلى تعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، وتقطيع الأوصال، والحصار، والجدار.
إن برنامج فياض يقوم على فن الممكن، على أساس "خذ وطالب"، و"شيء باليد أفضل من لا شيء"، والاعتراف بالواقع والعمل على تحسينه، ما يعتبر قفزة عن الهدف الأساسي وهو إزالة الاحتلال، لأن تحسين شروط الاحتلال لا تؤدي بالضرورة إلى إزالته، بل ربما إلى تكريسه.
فمنذ ظهور ما يعرف بالقضيّة الفلسطينيّة، ظهر هناك دائمًا تيار "واقعي" يقوى حينًا ويتراجع أحيانًا أخرى، ينادي بقبول الواقع كما هو، وسبق أن نادى بالاعتماد على التحالف مع دولة الانتداب (بريطانيا) والمراهنة عليها، وقبول التقسيم ثم نتائج النكبة بضم الضفة إلى الأردن وفرض الوصاية المصريّة على قطاع غزة، والقبول بما توصل إليه السادات مع بيغن حول حكم ذاتي للفلسطينيين.
إن توقيع اتفاق أوسلو، والسياسة الرسميّة المعتمدة من ذلك التاريخ وحتى الآن، باستثناءات قليلة ما بين الفترة 2000 - 2004، كانت تعني امتدادًا لمنطق هذا التيار، وعندما وصل طريق المفاوضات إلى حائط مسدود وتعميق الاحتلال، بدأ ياسر عرفات بالعمل على تغييره، ما أدى إلى شن عدوان إسرائيلي شرس بدعم أميركي على السلطة، انتهى بإعادة احتلال الضفة الغربيّة، وفك الارتباط الإسرائيلي مع قطاع غزة، ومحاصرة عرفات في مقره برام الله، والدعوة إلى تغييره وإيجاد قيادة فلسطينيّة جديدة ومختلفة تحارب "الإرهاب"، كما صرح جورج بوش الابن، وصولًا إلى اغتياله.
الفلسطينيون ليسوا بحاجة إلى تجريب المجرب، لأن سياسة الرهان على التوصل إلى حل يقوم على "حل الدولتين" بالاعتماد على المفاوضات برعاية أميركيّة ومشاركة دولية رمزيّة فشلت فشلًا ذريعًا، وإعادة إنتاجها لن تؤدي سوى إلى الحصول على ما حصلنا عليه فعلًا، وربما أسوأ منه، وهو حكم ذاتي موسع أو محدود على جزء من الأرض المحتلة عام 1967 من دون القدس وتصفية قضية اللاجئين، وهو حكم ذاتي يمكن أن يسمى دولة ذات حدود مؤقتة أو إمبراطوريّة، ويمكن أن يقوم باتفاق، أو بتعميق الأمر الواقع الاحتلالي، أو بالخطوات الأحادية الإسرائيلية.
صحيح أن الواقعية الفياضية تبدو اللعبة الوحيدة في المدينة، وما دامت كذلك يمكن أن تنتشر، وأقصى ما يمكن أن تحققه هو تحسين شروط حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، وهي أفضل أو أقل سوءًا أو أسوأ من سياسة المغامرة والانفصال أو اللاسياسة (الانتظار).
ولكن يمكن اعتماد سياسة أخرى وطنيّة وواقعيّة وديمقراطيّة في وقت واحد؛ سياسة تلتزم بحقوق الشعب الفلسطيني وأهدافه الوطنية، لكنها لا تتجاهل الأمر الواقع، بل تسعى إلى تغييره وليس تكريسه أو تحسينه فقط.
لا بد من إعادة الصراع إلى طبيعته بوصفه صراعًا بين شعب تحت الاحتلال واحتلال إجلائي استعماري عنصري، يريد كل شيء والسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض وطرد أكبر عدد ممكن من السكان انتظارًا لظروف محليّة وإقليميّة ودوليّة ملائمة؛ تسمح بتهجير قسري أو طوعي لما تبقى من أصحاب البلد الأصليين، لقطع الطريق على قيام دولة فلسطينية حقيقية على حدود 1967، وعلى تجسيد حق العودة، وعلى قيام دولة واحدة من النهر إلى البحر تصبح ذات أغلبيّة فلسطينيّة، وتحول إسرائيل إلى دولة لكل مواطنيها أو دولة ثنائيّة القوميّة.
على أساس هذا السياسة، يتحول التدويل إلى أحد مكونات البديل الإستراتيجي، وليس تكتيكًا للضغط لاستئناف المفاوضات، وتصبح المقاومة الشاملة بأشكالها المناسبة لكل مرحلة جزءًا من هذه الإستراتيجيّة القائمة على الوحدة وإحياء المشروع الوطني والمؤسسة الوطنية الجامعة، على طريق تغيير موازين القوى كشرط ضروري لتحقيق حل وطني مرحلي أو إستراتيجي.
[نشر للمرة الاولى في جريدة "الايام" الفلسطينية وجدلية تعيد نشره بالإتفاق مع الكاتب.]